14‏/8‏/2008

سنكون يوماً ما يريد...



محمود درويش ،قلت فسجلنا....‏ أنا عربي‏، أنا اسم بلا لقب‏، صبور في بلاد كل ما فيها‏، يعيش بثورة الغضب‏
جاءك الموت ليقول، لقد حاورتني كثيراً ها قد حل دوري... أمهلتك
انتظرتك لتعد حقيبتك، فرشاة أسنانك وصابونك، وماكنة الحلاقة...الكولنيا والثياب، رحلتنا الآن ليست رحلة هازم ومهزوم... هي بداية للأبدية...
عندما دخل محمود إلى غيبوبته الأخيرة، تأملنا، أمنا، حاولنا ان نصدق انه سيصحو ويكتب جدارية أخرى، سيقوم اقوي يحاور الموت مرة أخرى وسيقتله إلى حين مرة أخرى... سيقول...
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلَّة المصري، مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت وأفلت من كمائنك الخلود
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد
قلت سنلقاه بعدها في حيفا ليتعمد في الكرمل،.... او هكذا املنا...
لكن هل انتهت الثنائيات... ثنائيات الحياة والموت...البداية والنهاية، الحضور والغياب، الخلود والزوال، هنا وهناك..
وليس هناك سوى هنا...
صديقة هاتفتني من المانيا تبكي، كيف يمكن ان تسمع خبر كهذا في شارع ألماني المارون به لا يعرفون من هو لنا، من يفهم هذا البكاء غيرنا، من يستطيع ان يفهم ان شمعه تضاء ألان على قارعة شارع برام الله مع أصدقاء الكلمة والحلم هو اكبر عزاء...
للحظات بعد وقع هذا الخبر ونحن نرنو إلى بحر حيفا القريب البعيد... بدأت أحس أن الفلسطينيين بدؤوا ينتهون... يخلصون واحد تلو الأخر...
والسيناريو جاهز، محمود درويش اعد لنا كل شيء، ننعيه من كلماته، حاور موته رسم شريط حياته وتلاه، حاور الحياة بجنرالاتها وجندها ومعشوقاتها وأمهاتها حاور الغياب والموت حاور الشاعر المرهق الذي فيه... وزهرة الأوركيد التي يلاغي بها تلك المتمنعة...

بحثت عن كلمات محمود في مكتبتي فوجدت اني ضحيت بأغلب كتبي، لعاشقين أكثر غرقاً مني به، فتاة مغربية التقيتها في أمريكا اعرف انها تتصفح ألان كتاب في حضرة الغياب، كانت على استعداد لقتلي كي تنتزعه مني.. وأعطيتها لفرط عشقها... صديقتي الأخرى الجليلية الشاعرة ورغم اعتكافها وبحثها عن المعنى في الدين مؤخراً، لا تزال تخون الإيمان بحبها له، تسترق النظر إلى حب أخر، أمسكت اثر الفراشة وفارقته ليدها.. وكأني أوزع هدايا حب وقطع من الوطن للعطشى...
عندما التقيته السنة الماضية على فنجان قهوة مع أصدقاء في رام الله، رايته معداً وينتظر.. متعب من الحياة، التي أراد أن يكون ابنها وليس ابن فلسطين فقط... وبرغم الانتظار... نثر اثر الفراشة ورمى النرد كشباك الصياد ليقيتنا بصيده... هو الشعر بحره الجامح والوافر الخصب من التاريخ والوطن والحب..
محمود درويش كان وسيزال الساقي لأرواحنا، لخيباتنا، كبواتنا لهاماتنا التي تحنو فيرفعها... ويقول لموتنا :
هذا البحرُ لي،
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ،
من خُطَايَ وسائلي المنويِّ … لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي.
ولي شَبَحي وصاحبُهُ.
وآنيةُ النحاسوآيةُ الكرسيّ،
والمفتاحُ ليوالبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار … لي
ما كان لي.
وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على جدار البيت لي …
واسمي،
إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ،
حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ،
وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
وهذا الاسمُ لي …ولأصدقائي،
أينما كانوا، ولي جَسَدي المُؤَقَّتُ،
حاضراً أم غائباً …
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ،
يشربني على مَهَلٍ،
ولي
ما كان لي :
أَمسي، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ،
وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ ومن أَبطالِهِ …
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -وإن أخطأتُ لفظ اسمي
على التابوت -لي.
أَما أَنا - وقد امتلأتُ بكُلِّ أَسباب الرحيل - فلستُ لي.
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي …